تم نشره في جريدة الصباح في 13 اكتوبر 2005
يفتتح عالم السوسيولوجيا الأمريكي من أصل إسباني مانيال كاستلس (Manuel Castells) كتابه « المجتمع والشبكات » (La société en réseaux) بحوار يدور بين الفيلسوف الصيني كنفيسوس (Confucius) و أحد معاصريه.
يقول كنفيسوس لرفيقه : هل ترى أنني رجل متعلم ومثقف ؟ فيجيب الرجل : طبعا ، وهل تشك في هذا ؟
فيكون الرد : لا أعتقد هذا . كل ما في الأمر أني أمسكت الخيط الرابط بين كل
المعارف.
1– مجتمع المعلومات من أجل المعرفة
قد يختلط أحيانا في الأذهان مفهومي مجتمع المعلومات ومجتمع المعرفة نظرا للعلاقة الجدلية بين المعلومات والمعارف فالمعلومة تمثل أداة تساعد على إنتاج المعرفة في حين تمثل المعرفة أرقى تجليات الذكاء البشري و لا يتاح إنتاجها وتبليغها إلا لفئة محددة من العلماء والباحثين والمفكرين.
ولعل ما يميز هذا الطور من تاريخ الإنسانية هو ما أمكن توفيره من قدرة هائلة على معالجة المعلومات وتراسلها و نشرها. وقد أمكن هذا نتيجة تلاقي عديدالتكنولوجيات الذي جعل كلّ أنواع الوثائق المعلوماتية من نصّ وصوت وصورة تندمج في صياغة موحدة هي الصياغة الرقميّة وتنتقل عبر الشبكات السلكية واللاسلكية بصفة آنية مع المحافظة على جودتها كاملة.
وما كان لهذا المجتمع المعلوماتي الجديد أن يكون لولا تطور البحوث والدراسات التي مكنت من تطوير الحواسب و وسائل الاتصالات السلكية واللاسلكية و أدوات الالتقاط للصوت والصورة وأدوات الرقمنة للوثائق على اختلاف أشكالها وهو نتيجة للتقدم العلمي في مختلف المجالات من فيزياء ورياضيات و إعلامية وغيرها. ولعل أبرز ما أجّج هذه الثورة الرقمية هو ظهور الانترنات، هذه الشبكة الكونية التي مكنت من ربط أي فرد من المعمورة بأي فرد آخر علاوة على تمكينه من كم لا متناهي من المعلومات التي يمكن الحصول عليها آنيا وبدون أي عناء ولا مشقة.
ولعل النجاح الباهر للأنترنات يفسر بما يوفره لعموم الناس من خدمات ميسرة دون أن يستدعي من المستفيد معارف خصوصية ومهارات في مجال الإعلامية أو غيرها من العلوم. فقد أصبح استعمال الأنترنات في متناول عامّة الناس.
كما لا يخفى على أحد النجاح الجماهيري للهاتف الجوال الرقمي وملتقطات التلفزة الرقمية وهما رمزان آخران للعالم الرقمي الجديد و تستند كل هذه الأدوات إلى قاعدة واحدة وهي استعمال الطريقة الرقمية لمعالجة الوثائق السمعية البصرية وغيرها.
إذن، وفر تطور المعرفة وتلاقي تكنولوجيات الحاسوب والهاتف والتلفزة ومعدات الاتصالات السلكية واللاسلكية ضمن منظومة موحدة هي المنظومة الرقمية عديد الوسائل لربط الصلة بين الأفراد أو لربط الفرد بمصادر المعلومات والخدمات عن بعد.
هنا تبرز العلاقة الجدلية بين مجتمع المعلومات ومجتمع المعرفة، إذ تصبح وسائل الاتصال الحديثة وخاصة منها الأنترنات والشبكات ركيزة من ركائز مزيد تطوير المعرفة إذ هي تمكن الدارسين و الباحثين من تكوين مجموعات لتبادل الخبرات وتلاقح الأفكار دون حواجز المكان والزمان علاوة على استغلال ما يتوفر عبر الشبكة من وثائق علمية ومجلات إلكترونية مختصة مما يعطي دفعا جديدا لإنتاج المعرفة ونشرها. وهو ما ينعكس بدوره على مزيد تطوير آليات مجتمع المعلومات. بحيث يمكن الحديث اليوم على مجتمع شبكي يساند من خلاله الذكاء الجماعي ذكاء الأفراد ويصبح فيه من يشتغل في معزل عما يدور حوله (أي في مختلف أنحاء العالم !) شبه مشلولا. فيمكن القول إذن أن بناء مجتمع المعرفة أصبح يستند إلى الاستغلال المحكم للشبكات ومن خلالها للمصادر المختلفة للمعلومات لاسيما وأن الإنتاج العلمي والفكري يسابق الوقت ويتنافس من أجله آلاف الباحثين في مختلف أرجاء العالم ويمثل السبق في الابتكار ركنا أساسيا للقيمة المضافة في هذا المجال.
2– التعليم العالي في تونس : إشاعة نور المعرفة
ليس جديدا على التونسي حب التعليم والمعرفة وهو ما تجسم منذ السنوات
الأولى للاستقلال بنشر المدارس والمعاهد الثانوية بكل أصقاع البلاد في مدنها
وأريافها ودون تمييز بين أبناءها وبناتها. وقد تحول اليوم الضغط العددي من التعليم الابتدائي إلى التعليم العالي فالجامعات التونسية تضم هذه السنة حوالي 340 ألف طالبا (بنسبة %58 من الإناث) إذ يتم الآن إحداث حوالي 30
ألف مقعدا جديدا سنويا بمؤسسات التعليم العالي. ويمثل هذا التزايد نتيجة لذروة
ديمغرافية من ناحية ولسياسة إرادية من ناحية أخرى تهدف إلى رفع نسبة المتمدرسين بالتعليم العالي للفئة العمرية 20- 24 سنة من 35% حاليا إلى حوالي 50%سنة 2010.
كما يتم نشر مؤسسات التعليم العالي بمختلف جهات البلاد، شمالها وجنوبها، شرقها وغربها، بحيث أصبحت اليوم كل ولاية تحتضن عديد المؤسسات مما يساهم في إيجاد أقطاب معرفية محلية تساند النمو الجهوي وتوفر إشعاعا معرفيا بما يساعد على تقليص الفوارق بين المدن الكبرى وبقية المدن. وتم التخطيط في هذا الإطار إلى توفير 150 ألف مقعد للدراسة بالتعليم العالي بالمدن الداخلية خلال السنوات الخمس المقبلة أي تقريبا مجموع المقاعد الجديدة المقرر إحداثها خلال هذه الفترة بحيث يصبح توزيع الطلبة أكثر توازنا بين المدن الكبرى والجهات الداخلية.
من ناحية أخرى تسعى المنظومة التعليمية الجامعية إلى التموقع في محيطها الدولي بتكثيف التعاون مع الجامعات الأجنبية وتبادل الأساتذة والباحثين و الطلبة إلى جانب الحث على الرفع من عدد الشهائد المشتركة بين مؤسسات تعليم العالي التونسية والأجنبية. كما تستقطب جامعاتنا الكفاءات العالية من بين الجامعيين التونسيين المنتشرين في مختلف الأقطار وتستفيد من خبرتهم بدعوتهم للتدريس وتأطير الباحثين الشبان في تونس.
وفي سياق التفتح على التعليم العالي في العالم انطلق التفكير في التركيز التدريجي لمنظومة امد (إجازة-ماجستير-دكتورا) المعمول بها في جل بلدان العالم و لا سيما في الاتحاد الأوروبي وهو من أهم شركائنا في مختلف المجالات. وستمكن هذه المنظومة جامعاتنا من أكثر مرونة في التكوين، ويسر في معادلة الشهادات الجامعية ووضوح أكبر في مستويات التخرج بالنسبة للجميع (الطلبة – الجامعات الأجنبية – المحيط الاقتصادي )، وهو ما من شأنه أن يوفر فرصا أمام الطلبة وإطارات التدريس والبحث للتنقل في إطار اتفاقيات الشراكة و أن يفتح آفاقا جديدة للتشغيل أو لمواصلة الدراسة في مراحل الماجستير والدكتورا.
3– التعليم العالي والانصهار في الاقتصاد الجديد
إضافة إلى الجانب العددي الذي يمثل ركيزة أساسية لبناء مجتمع المعرفة يتمحور، من ناحية أخرى، تطوير منظومة التعليم العالي حول إعادة النظر في محتوى التكوين والشعب التي يتم توفيرها للطلبة. في هذا الإطار يتم سنويا تنويع التخصصات التي تدرس في الجامعة و بعث مسالك تكوين جديدة مرتبطة بالتكنولوجيات الحديثة والقطاعات الواعدة إلى جانب رفع عدد الشعب القصيرة التي تستقطب حاليا حوالي ثلث الطلبة و يمثل خريجو هذه الشعب جزءا هاما من الموارد البشرية في عديد المجالات الاقتصادية الواعدة. كما يتم تكثيف التكوين في الإعلامية والاتصالات وعلوم الملتيميديا قصد رفع عدد الطلبة الدارسين في هذه التخصصات من 37 ألف حاليا إلى 50 ألف في أفق سنة 2009.
والسعي حثيث، من ناحية أخرى، لتعميم تدريس الإعلاميّة في مختلف المستويات والشّعب نظرا للضرورة الواضحة التي أصبح يكتسيها إتقان المبادئ الأساسية لاستعمال الحاسوب.
ويهدف هذا التمشّي إلى تيسير اندماج خريجي التعليم العالي في الاقتصاد الجديد الذي يستند أساسا إلى صناعات الذكاء والمعرفة وهو ما جعل البعض يتحدث عن اقتصاد المعرفة أوالاقتصاد اللامادي. كما يساعد تطوير عدد الخريجين في مجالات التكنولوجيات الحديثة على تمكينهم من فرص لبعث مؤسسات جديدة بمبادرات خاصة مما يساعد على دفع النمو الذي أصبح يرتكز بنسبة هامة على الاستثمار في القطاعات المرتبطة بهذه التكنولوجيات علما
وأن عديد الآليات والهياكل ركزت لبعث روح المبادرة و عقلية المؤسسة لدى الطالب نذكر منها فضاء المؤسسة و محاضن المؤسسات والأقطاب التكنولوجية التي تنتشر شيئا فشيئا داخل النسيج الجامعي.
4– التعليم العالي والتدريس عن بعد
تم وضع برنامجا لاستغلال الوسائل الحديثة للاتصال للتدريس عن بعد في
التعليم العالي من خلال إحداث الجامعة الافتراضية سنة 2002. وقد قامت هذه الجامعة الفتية في الفترة الوجيزة التي تلت إحداثها بتركيز هياكلها ووضع خطط وبرامج عملها وشرعت في التكوين عن بعد في بعض التخصصات وفي الإحاطة بالإنتاج البيداغوجي الرقمي. وتسعى الجامعة الافتراضية إلى تأمين 20% من الدروس بصفة غير حضوريّة وذلك بالتنسيق مع الجامعات الأخرى وبمساعدة المدرسين في مؤسساتالتعليم العالي على صياغة الدروس صياغة رقمية إلى جانب تكوين مدرسين مؤهلين لمرافقة الطلبة من خلال منظومة التدريس عن بعد. كما ستوفّر الجامعة الافتراضية إمكانيّة التعلّم عن بعد بصفة كلية في عدد من التخصصات يتطور تدريجيا لمن يرغب في تكوين غير حضوري تام إلى جانب توفير فرص لإعادة أو استكمال التكوين الجامعي.
5– التعليم العالي والبحث العلمي
ولا يخفى على أحد أن التعليم العالي متصلا اتصالا وثيقا بالبحث العلمي بحيث تتوفر مؤسسات التعليم العالي على 457 وحدة بحث و 72 مخبرا ويمثل استعمال تكنولوجيات الاتصال الحديثة بالنسبة للأساتذة الجامعيين والباحثين وسيلة للعمل تمكنهم من التواصل مع زملائهم من مختلف الجامعات في العالم ومن استغلال الأرصدة العلمية الموجودة بقواعد المعطيات و المجلات
الإلكترونية العلمية المتوفرة عبر شبكات البحث علما و أن الربط مع المركز الوطني الجامعي للتوثيق العلمي والتقني يمكن الباحثين، إلى حد الآن، من
الاستفادة من حوالي 7000 مجلة علمية إلكترونية عن بعد و عبر اشتراك موحد.
ولعل البحث العلمي يمثل إحدى أهم الحلقات في بناء اقتصاد المعرفة إذ يتبين أن الدول الأكثر تقدما اقتصاديا (الولايات المتحدة، اليابان، ألمانيا و … كوريا الجنوبية التي تسبق فرنسا في هذا الترتيب) هي تلك التي تولي هذا القطاع القسط الأوفر من ناتجها الداخلي الخام فالبحث العلمي يمكن من تطويرالمعرفة وتوظيفها لصالح المؤسسات الاقتصادية الوطنية في شراكة متينة بين الجامعات ومراكز البحث والنسيج الاقتصادي مما يسمح بتطوير الإنتاج و تحسين جودته حتى يتمكن من المزاحمة في ظل الاقتصاد المعولم الذي نعيشه.
6– التعليم العالي والبنية التحتية المعلوماتية
ولا يمكن لكل ما سبقت الإشارة إليه أن يتوفر دون العناية بالجانب المادي من بنية تحتية متكونة من شبكات و حواسب وآليات للسلامة المعلوماتية مع توفير الموارد البشرية لإدارة هذه المنظومة المعلوماتية. في هذا السياق تم ربط كل مؤسسات التعليم العالي بشبكة الانترنيت عبر مركز الحساب الخوارزمي ويتم الإعداد لتركيز الجيل الثاني للشبكة الوطنية الجامعية باعتماد التدفق العالي وتطوير بروتوكول الانترنات المستعمل بالتنسيق مع الهياكل الوطنية لإدارة الانترنات.
7– من أجل حلقة فاضلة
إن التعليم العالي يمثل القاعدة الصلبة التي يرتكز عليها مجتمع المعرفة وهو يوفر العنصر البشري الرائد الذي يؤسس لمجتمع المعلومات الذي بدوره يساعد منظومة التكوين والبحث على تحسين مردودها. وبالتوازي مع التقدم الحاصل في بناء مجتمع المعرفة بالرفع من نسبة التمدرس بالتعليم العالي نشهد تزايدا في عدد حاملي الشهادات العليا لم تعرفه تونس طيلة تاريخها إذ من المتوقع أن يرتفع عدد الخريجين من 48 ألف حاليا إلى حوالي 100 ألف سنة 2010 بحيث يواجه الاقتصاد الوطني تحديا كبيرا لاستيعابهم. وهو ما يدعو إلى اقتحام مجالات صناعية وخدماتية جديدة بتوظيف آليات البحث العلمي و تحفيز حاملي الشهادات العليا على بعث المؤسسات المجددة. في هذا الإطار يمثل تركيز مجتمع المعلومات فرصة للمساعدة على ربح رهان تشغيل حاملي الشهادات العليا من ناحية ودفع عجلة التنمية من ناحية الأخرى من خلال حلقة فاضلة تربط التكوين والبحث العلمي والمحيط الاقتصادي في مجالات التكنولوجيات الحديثة مما يساعد على خلق حركة دفع للقطاعات الثلاثة في آن ويسمح بإدماج خريجي الجامعات في عديد التخصصات على غرار ما نشهده في البلدان المتقدمة والصاعدة التي يرتكز فيها اقتصاد المعرفة على تنسيق محكم بين الجامعات ومؤسسات البحث والقطاع الاقتصادي.
ويتطلب تحقيق هذا النمط من العمل المتناسق تخطيطا محكما وتنظيما متناهي الدقة وانضباطا في الإنجاز فالواضح أن اقتصاد المعرفة و مجتمع المعلومات يرتكزان على سرعة الربط و آنية تبادل المعلومة مما يستوجب قدرة فائقة على التنظيم وإحكام التصرف في المعدات والموارد البشرية ويستند اقتصاد المعرفة أساسا إلى قيمة العمل وقدسيته والحرص على جودة الخدمة في كل
المستويات وبصفة مسترسلة.